مـدينـة مسافـي

مفتوحة على الجمال

 مسافي الفجيرة  - واحة خضراء عامرة بالمزارع النضرة والمياه الرقراقة اختارها التاريخ ليحط فيها رحاله فسطرت بعزم أبنائها جزءاً مضيئاً من تاريخ دولتنا، وتقع قرية مسافي أو “لبنان الصغيرة” كما كان يطلق عليها السابقون نظراً لجمال وروعة أراضيها الدائمة الخضرة على مسافة 35 كيلومتراً من مدينة الفجيرة إلى الداخل من الطريق المؤدية إلى دبي بين أحضان سلسلة من الجبال شاهقة الارتفاعات. ويصل تعداد سكانها إلى نحو خمسمائة نسمة ينتمون جميعهم لقبائل العبدولي والحفيتي والنقبي والمزروعي. وتحوي هذه القرية الوادعة التي لطالما اقترن اسمها بأمطار الخير والبركة ما كان له أثر واضح في خصوبة وجودة أراضيها قلعة أثرية يعود تاريخها لأكثر من أربعمائة عام ومازالت شامخة تقاوم سنوات الدهر لإثبات أصالتها إضافة إلى عشرات المنازل البدائية القديمة المنتشرة فوق وتحت سفوح جبالها ناسجة قصص الماضي العريق على جبال الحالية والمستقبلية.

     
الهدوء الشديد الذي يلف البلدة وطيبة سكانها الفطرية وبساتين الهامبا والنخيل بجميع أصنافهما وألوان ثمارهما وآلاف أشجار الزينة التي تترامى أغصانها متلاقية على أكتاف وجنبات الطرقات وأصوات العصافير الشجية ومياه الآبار الصافية العذبة والمنازل التراثية القديمة التي سكنها وعاش فيها الأولون. وتروي قلعتها التاريخية المنيعة وحدها بجدرانها وحامياتها الحصينة المنتشرة في نطاقها قصصاً من الكفاح المشرف للأهالي في الذود والدفاع عن مكتسبات وخيرات القرية الطبيعية. جلنا داخل إحدى المزارع، التقينا شاباً في العقد الثاني من عمره يدعى صالح سعيد العبدولي، وقد انهمك في أعمال الفلاحة وتنظيم قنوات المياه لري أشجار النخيل والمانجو وبعض أصناف الخضراوات.
     

يتوجه بنا العبدولي إلى مجلس شياب القرية وهناك، وكما طبيعة سكان الجبال، استقبلنا الجميع بحفاوة بالغة وحدثنا الشيبة محمد حسن الحميدي عن أوضاع المعيشة قديماً فقال: عشنا في ما مضى حياة بسيطة غلب عليها قوة الترابط الاجتماعي الذي يجمع بين أهالي القرية على عكس ما هو حاصل بين الأجيال الحالية، واعتمدنا في حياتنا لكسب الرزق على ممارسة الزراعة وجمع العسل من الكهوف الجبلية المنتشرة بكثرة داخل جبال المنطقة إضافة إلى تربية الهوش والبوش. وكنا نتاجر في المحاصيل والفواكه كالذرة والشعير والقمح والمانجو والتمور داخل أسواق مدن رأس الخيمة والشارقة ودبي عبر رحلات شاقة ومتعبة كانت تستغرق الرحلة الواحدة منها ثمانية أيام ذهاباً وإياباً خلال طرقات جبلية صعبة مليئة بالتعاريج والمنحنيات الخطرة لا مأوى لنا فيها سوى العراء والنوم على الكثبان الرملية والحصى ناهيك عن الفزع الذي كانت تسببه لنا الحيوانات المتوحشة والمواجهات الدامية التي كانت تحدث مع قطاع الطرق من لصوص القوافل التجارية.

     

وأضاف: عانينا كما عانى الآباء والأجداد قبلنا ظروف الحياة القاسية حيث لا طرقات معبدة تسهل من تنقلاتنا ولا منازل نشعر فيها بالاستقلالية والأمان وتتقينا من الظواهر المناخية غير المستقرة كالرياح والأمطار وحتى خدمات مياه أو كهرباء أو اتصالات إلى أن أعلن المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه الاتحاد وتبدلت أحوالنا المعيشية إلى الأفضل، ونعمنا بالخير الوفير الذي عم البلاد. ويقول أحمد سعيد مطر: اشتهرت مسافي طيلة عقود بعيدة بوفرة العيون المائية التي كانت تتجمع خلالها مياه الأمطار الغزيرة المنهمرة من أعالي الجبال ما ساعد على خصوبة أراضيها وتنوع وتعدد المحاصيل الزراعية بها دون غيرها من المناطق المجاورة ولهذا انصب اهتمام الأهالي آنذاك على ممارسة حرفة الزراعة لما كانت تدره من دخول مادية جيدة وأسهمت إلى حد كبير في أن ينعم الجميع بحياة هانئة وكريمة، ويؤكد أن القرية وعلى الرغم من قلة الأمطار خلال السنوات الماضية مازالت تحتفظ داخل أراضيها بعدد لا بأس به من العيون المائية النابضة بالحياة وعن تسمية مسافي قال منذ أن وعينا هذه الحياة وهناك رواية يتناقلها جميع الأهالي من الآباء والأجداد السابقين وتشير إلى أن القرية سميت بهذا الاسم نسبة إلى نقاء وصفاء وعذوبة مائها الذي أحال تربتها الرملية الجرداء القاحلة إلى أرض خصبة مليئة بشتى أصناف الخيرات الزراعية. ويخبرنا أحمد مطر أن مسافي ظلت لفترة طويلة قبل الاتحاد المصيف البديع الذي كان يقصده سكان دبي والشارقة وبعض مناطق الدولة الأخرى للاستمتاع بأجواء الطبيعة الساحرة والمزارع الغناء إذ كانت العائلات تقيم في عرشان من جريد وسعف النخيل بسيح القرية لمدة يوم أو يومين.

     

 من ناحيته يقول الشيبة علي سيف المزروعي: مسافي عرفت قديماً باسم لبنان الصغرى نظراً لاخضرار مزارعها الدائم ولم يكن يوم يمر خلال مواسم الأمطار في الماضي البعيد إلا وتنهمر مياه الخير والبركة بفيضها الغزير على جميع ربوع القرية فتروي المزارع وتملأ الوديان والآبار وتشيع في نفوس الأهالي البهجة والسرور.

وحول تسويق محاصيل القرية يقول لم نكن نجد أي صعوبة في بيع محاصيلنا من التمور والذرة والهامبا والبصل والطماطم والفندال وغير ذلك من المحاصيل الشتوية والصيفية من الأسواق فحال وصولنا كان التجار يتهافتون على شراء خيراتنا لنضارتها ومذاقها الطيب إما بالنقود أو عن طريق المقايضة مع سلعهم الأخرى من أقمشة وزيوت وقهوة وغيرها.

 

     

ويتطرق بنا الشيبة راشد علي بن شاهين إلى أوضاع المنازل والروابط الاجتماعية فيقول: القرية في مجملها كانت تتألف من 20 مسكناً بدائياً ورثناها عن الآباء والأجداد وعلى مر أكثر من مائتي عام تقريباً، وفيها تشبعنا بالمبادئ والقيم العربية الأصيلة وأدركنا أهمية السعي والعمل لكسب الرزق. ويضيف: سكنا في منازل مبنية من الأحجار الصخرية وسعف النخيل وكانت كل أسرة تعيش بكامل أفرادها داخل حجرة واحدة مقاسها متران في مترين محاطة من الخارج بسور حجري من داخله حظيرة صغيرة مخصصة لتربية الدواجن والطيور، فيما كانت ماشيتنا من الأغنام والماعز والأبقار تربى داخل حظيرة القرية الكبيرة الواقعة إلى جوار منازل الأهالي مباشرة. وأضاف كان التحول الكبير الذي طرأ على أنماط معيشتنا البدائية خلال فترة السبعينات وتحديداً عام 1973 عندما انتقلنا من منازل القرية القديمة في الجبال إلى الشعبية الجديدة التي شيدها لنا المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه ولم تقف مكارم الدولة السخية عند هذا الحد فحسب بل قامت بتوصيل خدمات الكهرباء والماء للمنازل وخلال عام 1976 ومع تزايد عدد سكان القرية وجه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم رحمه الله ببناء شعبية ثانية لأبناء القرية وسكنها الأهالي عام 1978.

     

ويؤكد راشد شاهين قوة العلاقات الاجتماعية التي كانت تجمع بين سكان مسافي فيما مضى بقوله: كنا نتزاور ونجلس للتسامر بشكل يومي ويساعد بعضنا بعضاً في أعمال الفلاحة داخل المزارع ونقيم الولائم سوياً ابتهاجاً خلال الأعياد والمناسبات، وهذه أمور باتت مفتقدة لدى الكثيرين من أبناء القرية الآن. الشيبة علي محمد النقبي يحدثنا من جهته عن زيارات المغفور له الشيخ محمد بن حمد الشرقي والد صاحب السمو الشيخ حمد بن محمد الشرقي عضو المجلس الأعلى حاكم الفجيرة فيقول: كان الشيخ محمد الشرقي رحمه الله يتردد أسبوعياً إلى قرية مسافي ليطمئن على أهلها ويتفقد أحوال المزارع وكان حال وصوله على ظهر الجمل يتوجه مباشرة إلى مقر منزله المجاور لمركز المطارزية القديم (الشرطة) ويأمر بنحر الذبائح وتوزيعها على الأهالي. ويشير إلى أن سكان القرية وطيلة إقامة المغفور له الشيخ محمد الشرقي رحمه الله كانوا يقيمون احتفالات ضخمة ينظمون خلالها الشعر. بدوره أشاد خميس سعيد الحفيتي بجهود صاحب السمو الشيخ حمد بن محمد الشرقي عضو المجلس الأعلى حاكم الفجيرة التي أحالت القرية إلى مصاف التحضر والتمدن ومكنت أهاليها من العيش الكريم والرغيد.

   

وحول قلعة مسافي التاريخية والرابية الموجودة فوق سفح أحد الجبال يقول: لا أحد يعرف من الأهالي على وجه التحديد العمر الحقيقي للقلعة لكن كل ما سمعناه من الأجداد أنها بنيت منذ ما يزيد على أربعمائة عام تقريباً من المواد المحلية كالحجر والحصى والطين والتبن. أما في ما يتعلق بالرابية (حصن صغير يبنى من الأحجار بأعالي الجبال ليكشف أرجاء المنطقة) فعاصرتها كبقية أبناء جيلي وأعي كيف كان المطارزية يتناوبون على حراستها بالتعاون مع الأهالي الذين كانوا يتمركزون داخل البوم الصغيرة المنتشرة في نطاقها لرصد أي محاولات من قبل اللصوص للهجوم على القرية، ويخبرنا سعيد عبدالله العبدولي أن التعليم قديماً كان يتلقى على يد المطوعين ويقتصر على تحفيظ القرآن الكريم وأمور الفقه فقط كما كان التداوي يتم من خلال الوسم أو الحجامة أو باستعمال الأعشاب الجبلية بأنواعها المختلفة. خميس سعيد العبدولي من جيل الشباب بالقرية يقول: لا شك في أن أوضاع القرية تغيرت جذرياً عما كانت عليه سابقاً فاليوم نرى مسافي مرتدية أبهى حللها وتحظى بما تنعم به البلاد من تطوير وتحديث في شتى المجالات.

   

يحدثنا الشيبة سعيد حسن الحفيتي عن كيفية الاستعداد للرحلات التجارية فيقول لنا كنا خلال رحلاتنا إلى أسواق دبي أو الشارقة ورأس الخيمة نستيقظ قبل أذان الفجر وعقب تأدية الصلاة في جماعة نقوم بتجهيز ما نريد تسويقه ليس من محاصيل زراعية فحسب بل من حطب وعسل وسمن وماعز ونخرج في مجموعة مكونة من عدة أشخاص قد تزيد أو تقل عن العشرة ونحن مدججون بأسلحتنا الشخصية إما البندقية أو الخنجر تحسباً لأية مواجهات محتملة مع قطاع الطرق أو اللصوص. ويضيف: تعرضنا كثيراً لهجمات مباغتة من لصوص القوافل التجارية وكان يقع منا ومنهم القتلى والمصابون ولذلك ارتأينا في معظم رحلاتنا التي تلت هذه كالاعتداءات اتباع أسلوب أمني لحماية جميع المرافقين والبضائع حيث كنا نقوم بتوزيع أربعة أشخاص بكامل أسلحتهم حول القافلة في أربعة اتجاهات على أن يتبادل معهم الحراسة من يسيرون إلى الداخل بجوار القافلة بين مسافة وأخرى. ويشير الحفيتي إلى أن الأهالي أثناء رحلاتهم سواء في الذهاب أو الإياب كانوا يتلاقون خلال الطريق مع القوافل التجارية لسكان الساحل الشرقي ويتبادلون التمور أو القهوة وكل ما يحتاجونه من مواد غذائية أخرى.

   
صور مدينة مسافي
 

المصدر : جريدة الخليج

© جميع الحقوق محفوظة لموقع قرية الطويين