الغُب تروي قصص الصيادين والأقدم على شاطئ أم القيوين

على بعد كيلومترات عدة من مدخل مدينة أم القيوين، تقع منطقة الغُب أقدم مناطق المدينة على ساحلها الخلاب . وعلى الرغم من التطور والمدنية التي أدخلت على المناطق المحيطة بها، وإقامة الكثير من المساكن بعد انحسار البحر، ونزوح الكثير من أهلها للعيش فيها، إلا أن منطقة “الغُب” لاتزال تحتفظ بين جدران بيوتها القديمة بقصص أبنائها الذين لا يحلو لهم الراحة والعودة إلى بيوتهم، إلا بعد التجمع على شواطئها واستحضار صور الماضي الجميل مع نسيم الغروب . الغُب التي معناها “مد البحرِ الطاغي على الشاطئ”، كان ومازال أهلها يعيشون على خيرات البحر من لؤلؤ وأسماك، وارتبطت منذ القدم بأعمال الصيد والتجارة عبر موانيها التي كانت تزخر بالبضائع الواردة إليها عبر الخليج، وتملأ أسواقها القديمة التي شكلت منذ عقود حلقة الوصل بينها وبين أطراف المدينة الساحلية الغناء .

يروي الوالد مطر عبيد مطر(60 عاماً) ذكرياته عن الغُب منذ عام ،1958 منذ أن كان طفلاً في فريج الغُب، حيث أخبره أجداده أن أهل المنطقة الأصليون كانوا من سكان جزيرة تحمل الاسم نفسه، وعاشوا بالقرب من الشاطئ حتى أصبحوا من أهل المنطقة، معتمدين على موقعها الجغرافي المميز الذي حفظ لهم صلتهم بالبحر وتجارة الأسماك واللؤلؤ .

وعن حال المنطقة قديماً يقول: كان أهل المنطقة البسطاء يعيشون على صيد الأسماك وتجارة اللؤلؤ، وكانت أم القيوين كلها عبارة عن جزيرة تحضنها الماء من كل الجوانب، مثل ورقة الشجر الملقاة في الماء . تمتد من منطقة محتف أم القيوين حالياً إلى منطقة الغُب، وكانت كل المناطق السكنية الموجودة اليوم عبارة عن بحر، بنيت بعد انحساره، ويضيف: كانت المنطقة خالية تماماً من الخدمات، فكنا نتداوى بالأعشاب والكي، لا نعرف الكهرباء، نعتمد على الإضاءة الطبيعية من الشمس، ومياه الشرب المستخرجة من الآبار، وكنا نتعلم في الكتاتيب القراءة والكتابة، ونحفظ القرآن على يد المطوع الذي كنا نهابه ونحترمه .

وفي ما يخص الحياة الاجتماعية يقول: عندما كنا أطفالاً كنا نملأ الدنيا مرحاً ولعباً . وكانت رمال البحر تحفظ أقدامنا، ويداعب نسيم البحر سمرتنا، نلعب منذ الصباح حتى أحمرار الشمس نعود إلى بيوتنا . وعندما كبرنا كانت المجالس تجمعنا، حيث كنا نتجمع في بيت أحد الإخوان إما في الصباح وإما بعد غروب الشمس .

أما في ما يخص العمل، فكان أهل الغُب يقتاتون من البحر، فبعضهم كان يعمل في صيد الأسماك، والآخر كان يعمل في صيد وتجارة اللؤلؤ . وكانت حركة البيع والشراء تتم في سوق السمك بجوار مسجد المنطقة الذي مايزال يحتفظ بمكانه حتى الآن .

وعن ذكرياته عن السوق يقول: كان السوق القديم يعجّ بالبضائع التي كانت تأتي على ظهور السفن من إيران والعراق وعمان والهند، وكان مملوءاً بالتمور والطحين والأرز والأقمشة، إضافة إلى السمك واللؤلؤ الذي يبيعه الصيادون في خيام سوق السمك القديم .

أما عن حركة الناس داخل السوق، فيوضح مطر أن السوق إضافة إلى كونه مكاناً للبيع والشراء كان مكاناً للقاء الأصدقاء وأهل الحي، فعندما لا تستطيع أن نجد أحداً في بيته أو في أحد المجالس تجده في السوق، حيث المقهى الشعبي الذي يتسامر فيه الناس حتى الساعات الأولى من النهار .

وعن ارتباطه بمنطقة “الغُب” حتى الآن يضيف: بنى الكثير من أهل المنطقة بيوتاً واسعة خارج الغُب لكننا لا يمكن أن نخلد للنوم فيها إلا بعد أن نجلس على شاطئها، ونجلس على تلك القهوة التي جمعتنا منذ سنين، لأنها أصبحت جزءاً من تكويننا وأصبحنا مثل السمك الذي لا يستطيع العيش خارجها .

يتابع صديقه الوالد سيف عبد الله، ذكرياته عن الغُب قائلاً: امتهن أهل المنطقة وأنا منهم الصيد، حيث كنا نمكث في رحلة الصيد سبعة أيام، نعود بعدها محملين بالخيرات نأكل ونبيع ونترك إلى أهلنا ما يكفيهم ثم نعاود الكرة مرات ومرات .

وبعد يوم من عناء الصيد والتجذيف، تحلو الجلسة في مجلس الأصدقاء . . يتجمع أهل الفريج ونتبادل أطراف الحديث من المساء حتى الليل، يرافقنا فيها التمر والقهوة ومتعة الحديث .

ويضيف: كنت أصيد الأسماك من خور البيضا، وأمكث من الخميس إلى الخميس على ظهر المركب، وكنا نحفظ الأسماك بعد تنظيف أحشائها بوضع الملح فيها، حتى لا تتلف خلال رحلة الصيد . وبمجرد العودة تبدأ عملية بيع السمك اليابس، داخل أم القيوين، وهناك من التجار من يأخذه إلى الكويت والبحرين عبر البحر .

عن طعم الأسماك التي كان يصيدها مقارنة بما يخرج من البحر حالياً يقول: السمك قديماً غير، كان مذاقه يختلف عن اليوم، فكما غيرت المدنية الناس، تغير طعم السمك، فبفعل ما يلقى في الماء من مخلفات وكيماويات . تغير طعم السمك الذي كان يبقى أياماً من دون حفظ في الثلاجات أو المبردات .

ويتابع عبدالله حديثه عن المنتجات التي كانت تباع في سوق أم القيوين بجانب السمك، قائلاً: كان السوق يعج بأفضل وأفخم البضائع التي لم نرَ مثيلها حتى الآن . ففي سوق “بانيان” كانت تباع أفضل أنواع الأقمشة والحراير الطبيعية التي كانت تأتي من الهند واليابان وإيران، وكان التمر يأتي إلينا من بغداد وعمان، وكانت البضائع تأتي إلينا على ظهور السفن تملأ منطقة “الغُب”، والسوق القديم . ويأتي الناس للتزود بالبضائع من داخل المدينة وخارجها .

وعن الأعراس في المنطقة وزواجه يقول: تزوجت عام ،1968 وكان المهر 3000 آلاف، وكان زواد العرس ذبيحتين وجوالين من الأرز، وكانت المعازف تقام لمدة أسبوع، تبدأ من العصر إلى الساعات الأولى من الصباح . وكنا نقدم الأرز، واللحم والتمر، والقهوة .

يكمل صديقه علي حاتم الشامسي (65 عاماً)، ذكرياته عن الغُب، قائلاً: اعتدت التجمع مع الأهل والربع، فكانت رحلات الصيد طويلة يمكث فيها صيادو اللؤلؤ قرابة خمسين يوماً، أما الصيد من الخور، فكان يذهب الصيادون بعد العصر ويعودون محملين بالخيرات في صباح اليوم التالي .

وعلى الرغم من سكنه خارج “الغُب” اعتاد الشامسي القدوم لملاقاة الأهل والأصدقاء في المجلس اليومي، بعد أن تخطى معظمهم الستين من العمر، ولم يعودوا يقوون على الذهاب إلى رحلات الصيد، ويضيف: بعد دخول الخدمات إلى أم القيوين، وتعاقب الأجيال وتطورها . انتقل الكثيرون من أهالي “الغُب” القديمة إلى أماكن أكثر رحابة واتساعاً، لاسيما بعد زيادة أعداد الأسر والأبناء، ويشب الجيل الجديد متشبعاً بروح المدنية والتقدم، فكل أبنائنا التحقوا بالجامعات، ولم يعد الصيد مهنة تليق بهم . لكننا إلى الآن نمتهن الصيد، ونسيّر مراكبنا بشكل يومي على الرغم من عدم قدرتنا على ارتياد البحر ومرافقة الصيادين .

ويؤكد الشامسي قوة ومتانة العلاقات الاجتماعية بين أهل “الغُب” قديماً، فقد كان أهل المنطقة يتجمعون لزيارة المريض، ويتكفلون بكل ما يحتاج إليه بيته وأبناؤه حتى يتعافى ويقوى على العودة إلى العمل . كذلك من يعاني ضائقة مالية يشكل أهل المنطقة بينهم مجموعة للسؤال عنه ويساعدونه بما يقدرون عليه في ما يسمى “بالمقدورة” . وعندما لا يقدر أحد أبناء الحي على نفقات زواج أحد أبنائه، يتكفل أحدهم بالذبائح وآخر بالأرز وثالث بالسكر حتى يزوج أبناءه جميعاً .

ويتذكر الشامسي إنشاء أول مستشفى في أم القيوين في العام ،1956 وكان اسمه المستشفى “الكويتي”، وأصبح الآن مستودعاً لمنطقة أم القيوين الطبية التابعة لوزارة الصحة . وأول مدرسة أطلق عليها مدرسة “قطر” دشنت في العام نفسه . وبريد السوق القديم الذي هدم وانتقل إلى خارج المنطقة .

ويسترجع محمد عبيد عضو جمعية الصيادين، ذكرياته عن منطقة “الغُب” دائم، التي مايزال وفياً للقدوم إليها بشكل دائم، رغم بنائه بيتاً خارج المنطقة، حيث نشأ وتربى بها، وتزخر ذاكرته بالكثير من القصص حول كل ركن من أركانها .

وعن تعليمه يقول: تعلمنا في مدرسة واحدة كانت تسمى الروضة، كنا نتلقى فيها دروس القراءة والكتابة ونحفظ فيها القرآن . وعندما كبرنا عملنا في البحر وأصبح معظم جيل الوسط ممتهناً لمهارات الصيد والتجارة بالأسماك .

ويضيف: هناك الكثير من أوجه المنطقة القديمة التي لا يعرف الجيل الحالي عنها أي شيء، ولم تذكره كتب التاريخ والتراث، فبجانب المستشفى “الكويتي” القديم كان هناك بنكان، أحدهما “بنك عمان” والآخر “بنك دبي” . وخلفهما كان هناك “مستشفى أبوظبي” .

ويروي عبيد قصة نزوح العديد من أهل المنطقة إلى مناطق جديدة لم يكن لها وجود، مثل الشعبية البيضا التي كان مكانها بحر، وبنيت بأكملها بعد انحسار البحر، كما انتقل الكثيرون ليعيشوا في منطقة السلمة التي تضم الآن أغلب سكان أم القيوين .

وعن ارتباطه كغيره من أهل “الغُب” بالمنطقة يقول: تشكل تلك المنطقة الكثير من وجداننا وذكريات آبائنا، ويحمل البحر الكثير من القصص التي عاشها معنا على مر عقود . لذلك لا يمكن أن نعود إلى منازلنا قبل أن نأتي إلى هنا، ونتقابل مع الأهل والأصدقاء، ونرى البحر ونشم رائحته ونسير بين دروب طالما حملتنا ونحن صغار . الخليج

Related posts