الشعبيات القديمة بيوت متراصة اجتماعياً والألفة تميزها وتمنحها طابعاً خاصاً

237532

موقع الطويين : الخليج

الحياة في الشعبيات القديمة تأخذ طابعاً مختلفاً عما هو معتاد في المدن والتجمعات السكنية الحديثة، حيث تتميز الحياة الاجتماعية هناك بالترابط والتلاحم الاجتماعي، ويحمل سكانها سمات قلما نجدها في المناطق الحديثة التي تأخذ طابعاً متسارعاً عن وتيرة الحياة والعلاقات الاجتماعية، إضافة إلى افتقادها لمزايا الأحياء الشعبية التي تشجع قاطنيها على الاختلاط والتسامر من خلال المجالس التي يجتمع فيها كبار وشباب وصغار الحي . هذا الفارق شجع الجهات المعنية على إحياء العلاقات الاجتماعية في المساكن الجديدة التي تبنيها الدولة على طراز الأحياء الشعبية، وتسمح لأبناء العائلة الواحدة بالتجمع في بيوت متقاربة من بعضها .

 

“الخليج” تجولت في العديد من الأحياء الشعبية، وساءلت شبابها وشوابها الذين يعيشون في زمن العلاقات الاجتماعية التي يتمناها كل شخص، عن مزايا وسمات هذه الأحياء .

 

في ذلك الحي الشعبي القديم داخل منطقة الشويهين في الشارقة، وفي تلك الأزقة الضيقة، والشوارع والمجالس المزدحمة ليلاً بأناس يعرفون بعضهم البعض، تساءلنا من الحاج عبدالله الكاف، عن سر ملامح السعادة على وجوه شباب وسكان هذه الأحياء، ليقول: هي العلاقة الاجتماعية التي تعلمها الصغير قبل الكبير، والقيم الروحية التي يتأصل بها سكان الحي تجاه الآخرين، كالعائلة الواحدة . ويوضح، العلاقات الإنسانية في الأحياء الشعبية تتسم بالوئام والانسجام بين العائلات، وهي حياة خالية إلى حد كبير من التعقيدات التي فرضتها الحياة العصرية الحديثة، فالجيران فيها يزورون بعضهم بشكل دوري، ويعرفون بعضهم بعضاً، ويشكلون ما يشبه العائلة الواحدة داخل الحي، والسبب الرئيسي لتوفر هذه المزايا أن الناس تجمعهم ظروف متشابهة اجتماعياً واقتصادياً، ويهتمون بالإبقاء على العادات والتقاليد حية في يومياتهم .

 

يوافق عبدالعزيز الزمر (صاحب متجر للتحف والمقتنيات التراثية في سوق العرصة في الشارقة) على أن ما يميز الأحياء الشعبية عن غيرها، أنها أكثر تمسكاً ومحافظة على العادات والتقاليد المتعارف عليها، إضافة إلى انه تربط شبابها وسكان هذه المناطق علاقة نقية، بعيدة عن الأهداف والمصالح، ويتمسكون بروح التكاتف الاجتماعي، ومساندة بعضهم، ويتبادلون الزيارات ويقفون مع بعضهم في الأفراح والأتراح، على عكس الحياة داخل الأبنية والأبراج السكنية الحديثة، حيث ينشغل الناس بمشاكلهم اليومية، ويتقاعس الجيران عن القيام بواجباتهم تجاه الآخرين، لدرجة تكاد العلاقة بين الجيران تختفي مع مرور الوقت . ولكن في ذات الوقت يختلف الزمن، مع من يعتقد بان هذا الوئام الاجتماعي، سببه طبيعة الأحياء والشعبيات المفتوحة على بعضها، فالنموذج الهندسي السكاني لا يلعب أي دور اجتماعي، وإنما الإنسان والقيم التي تربى عليها .

 

أما الحاج عبدالله غانم، فهو يعتبر الحي الذي يسكنه بمثابة الوطن، ويقول: من عاش وترعرع في الأحياء الشعبية حيث البساطة والعيش المبارك لا يستطيع التخلي عنها بسهولة، فنحن هنا نتواصل مع بعضنا، ونراعي حق الجار وحرمته، والكل يتفقد الآخر إذا ما غاب عن المجلس أو الصلاة في الجامع، وإذا ما علمنا أن سبب غيابه هو المرض، نبادره بزيارة، ونتفقد عائلته ونرعاها، ونجلب كل ما تحتاجه . وحول سمات شباب الشعبية، وما يدفعهم إلى الانجذاب لمجالس الشواب، على عكس ما هو معروف عنهم يقول: هنا نتبادل النصائح فيما بيننا، ونتناقش في قضايا حياتية مطروحة عن مجتمعاتنا، نضع لها الحلول، وفي ذات الوقت نتسامر وتابادل النكت والأمثال الشعبية، ومثل هذه المجالس والأحاديث تجذب الشباب بغاية التعلم والاستفادة . مشيراً إلى ان الحياة الأسرية في الأحياء تتسم بالبساطة والألفة، لأنهم عبر مختلف الأجيال المتعاقبة يحافظون على بعضهم، ويتواصون بالمحبة والتعاون .

 

ويقول محمد كمال (رجل أعمال في أبوظبي ويسكن في منطقة بني ياس): لو تجولنا في المناطق الريفية أو البادية أو التجمعات السكانية في المدن التي لا تزال تحافظ على النظام الاجتماعي للمنطقة، لاكتشفنا بشكل عميق مدى قوة الترابط الاجتماعي في هذه المناطق لأسباب كثيرة، فالبيوت هناك مفتوحة لبعضها دائماً، ويتربى الصغير مع جاره أكثر مما يتربى مع أهله، والشباب والكبار يختلطون مع بعضهم بشكل يومي، ويهتم صغيرهم قبل الكبير بالحفاظ على هذه الأعراف الاجتماعية، ما أريد التأكيد عليه ان البشر لا يتغيرون، واكبر أخطائنا أننا نصنع دائماً من الشباب شماعة لفشلنا الاجتماعي، بينما الحقيقة ان الحياة الاجتماعية تكاد تنعدم في المناطق السكنية لدرجة أن الجار لا يعرف جاره، لان أولياء الأمور لا يربون أبناءهم على ذلك .

 

بينما يذهب عبد الله فضل، (طالب في جامعة عجمان) إلى أبعد من ذلك، وهو يقطن في أحد الأبراج ضمن التجمعات السكنية المتطورة، ويقول: الحياة الاجتماعية داخل الأبراج السكنية معدومة، ولا تنتهي فقط بأن الجار لا يزور أو يعرف جاره، وإنما قد لا نعرف أن احدهم من أبناء عمومتنا أو من العائلة إلا بعد تعارف ووسيط قد يكون الأب أو الجد . وأبسط ما يجعل الحياة في المناطق الشعبية أو ذات الطابع التراثي سهلة، ان الجميع هناك يؤجل انشغالاته الشخصية ليتسنى له الاجتماع بالجيران والاطمئنان على صحة الأحباب، بينما في داخل المدن العصرية والأبراج السكنية يحدث العكس، حيث يؤجل الجميع واجباتهم العائلية ويتقاعسون عن صلة الرحم، بدواعي الانشغال في العمل .

 

ويضيف أحمد خالد (طالب) عندما يوجد حدث مهم، مثل لعبة كرة قدم، يأتي جميع الجيران لمتابعة المباريات في منزل احدنا، وكل واحد يحضر معه شيئا، كما يأتي الأطفال، وأحياناً الآباء والشواب، فتتعالى الضحكات والأصوات والتشجيع عند تسجيل الأهداف . ويضيف: تستقبل مجالسنا بشكل يومي جلسات حوارية، يتم من خلالها طرح مواضيع معينة، تستهدف الشباب والمراهقين والصغار والمعنيين من كبار السن المتواجدين في المجالس، للاستفادة من خبراتهم المتنوعة في كل المجالات، وتعتبر آراؤهم مفيدة للجميع .

 

أثناء التجوال في إحدى الشعبيات القديمة في عجمان، إلى جانب التجمعات البشرية التي تصادفك في كل حي، يلفت النظر أيضاً غياب الوسائل التكنولوجية والهواتف الذكية أو وسائل الترفيه الحديثة عن أيدي شبابها، وحول هذا الموضوع يقول ناصر خميس، موظف في مجموعة الفطيم للسيارات، ان ملامح الحياة في الشعبيات واهتمامات سكانها تختلف عما هو موجود في المدن الحديثة، فنحن ما زلنا نتمسك بالأعراف الاجتماعية، ونحرص عليها بالرغم من اختلاف ملامح السكان في هذه الأحياء، السمة الأساسية لكل شباب الحي في الملتقيات الليلية أو أثناء الزيارات الأهلية، هو الحديث عن أحداث الساعة في مجالس شعبية، وكل ما يجري من حولنا، مشيراً إلى ان روح العائلة الواحدة تتحكم في كل فرد وعائلة تعيش في هذه الأحياء، بالرغم من التحولات التي حدثت كوجود السيارات وشبكات التلفاز، وبرأيي ان الحياة الاجتماعية في المناطق السكنية النموذجية لا تستطيع التخلي عن طابع الحداثة والاعتماد على الرفاهية التكنولوجية، التي يستخدمونها في تواصلهم مع الآخرين بدلاً من الذهاب إليهم، لأنهم لم يعيشوا تجربة الأحياء الشعبية .

 

ويروي الشاب محمد الملا (موظف في دبي) قصة طريفة حدثت معه عندما قرر في إحدى المرات الجلوس مع الشواب في مجلسهم الليلي في حي الفهيدي في دبي، حيث كان يوجه له النقد الدائم لعدم اختلاطه مع شباب الحي الذين يجتمعون لتبادل الأحاديث والخبرات كل بحسب تخصص عمله، وذلك لكثرة انشغاله في العمل، وكان الموقف سبباً في استمراره بمخالطة شباب المنطقة وشوابها في مجالسهم وعلى حواف الأرصفة . ويقول: دخلت أحد المجالس التي يجتمع فيها شباب وشواب الحي ويتسامرون ليلاً بشكل يومي، ولأنها المرة الأولى التي اختلط فيها بهم، أراد احدهم معاقبتي بتلقيني درساً، فقال لي على الفور وقبل أن أجلس، “أنت أمير وأنا أمير، فمن يقود الحمير؟”، لم أفهم القصد، ولكن الجملة أغاظتني، فخرجت سريعاً من المجلس، لأدرك بعدها ان تلك الجملة مثل شعبي، يضرب في الإنسان الذي يرى نفسه مسؤولاً عن كل شيء ويتحجج بكثرة انشغاله، بينما لا ينجز الواجبات الاجتماعية المطلوبة منه . مشيراً إلى ان ذلك الموقف، دفعه للخروج يومياً إلى الحي والتسامر مع الجيران، وكما يقول المثل “الناس بالناس والكل بالله”، والمقصود أن الناس يحتاجون إلى التعاون في ما بينهم، فمصالحهم مشتركة، والإنسان قليل بنفسه كثير بإخوانه، وهم على هذا التعاون والتآزر يحتاجون إلى رعاية بعضهم بعضاً .

Related posts