همزات فصل لا وصل بين الأسر .. الأجساد حاضرة والأرواح غائبة في وسائل التواصل الاجتماعي

social-networking-598x337

موقع الطويين : الاتحاد

أثار انتباهها تعبيرات وجه والدتها، وهي تتابع ما يأتيها على شاشة الهاتف المحمول من معلومات وما يتوافد عليها من رسائل، بعد أن يطلق رنات إيذاناً بالوصول، فتبتسم الأم مرة وتعلو ضحكتها مرات، وتغضب أحياناً، مشاعر وأحاسيس وتفاعلات قد تمر في فترة وجيزة تجعلها تنفصل عن الواقع الذي تعيشه، ما جعل خديجة الرامي تتدخل لاقتسام هذه اللحظات، فما كان من الأم إلا توجيه ملاحظة بعدم النظر إلى الشاشة والتجسس على ما يكتب، وتكرار هذه الأفعال جعل خديجة تدخل في جو من الصمت.

وتشكو خديجة انشغال والدتها بوسائل التواصل الاجتماعي والتنقل عبرها لمعرفة أخبار الأصدقاء والأحباب، إلى جانب عرض مشاهد المقاطع والوصفات والفيديوهات والأفلام القصيرة وتبادلها مع مجموعاتها على وسائل التواصل والواتس آب الذي ينقل يومياً ما لا يقل عن 27 مليار رسالة، تجاوزت حدود المعقول وأصبحت تغزو البيوت وتفرق الأسر.

 وقال أحمد السعيد شاب في العشرينيات: «إن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت أفراد أسرته في معزل عن بعضهم، مؤكداً أنه يحتفظ بالكثير من المواضيع التي يرغب في الحديث فيها مع أهله، لكن انشغالهم يجعله يبحث عمن يتقاسم معه همومه خارج الأسرة، في حين أشارت ليلى شريف إلى أنها أصبحت تشعر بجفاف في المشاعر والأحاسيس، مؤكدة أن مجالس الأسرة أصبحت صورية، بحيث الأجساد حاضرة والأرواح غائبة نتيجة انشغال الجميع بهواتفه الذكية واستقبال وإرسال الرسائل».

 الرقبة المنحنية

وقال الدكتور مصطفى أبو السعد، الخبير التربوي، إن هذا الجيل أصبح يوصف بجيل «الرقبة المنحنية» من خلال مقال تناول فيه تأثير وسائل التواصل الاجتماعي من «واتس آب»، و«أنستجرام»، و«سكايب» وغيرها من الوسائل التي أصبحت تدير أوقات الأسر وتفرقها، مؤكداً أن البعض فقد الإحساس بطعم الحياة والتأمل بالطبيعة والتفكر بمجريات الأحداث، والتركيز على الأهداف والاستمرار بالإنجاز، مشدداً على أن أكبر أولوية هي بناء أسرة مستقرة وسعيدة ومترابطة، ونوَّه بأن البعض أصبح يركز على نقل الأخبار والأحداث التي من حوله، أكثر من أن يتفاعل مع الحدث الذي أمامه، فمثلاً إذا رأى حادث اصطدام بين سيارتين، يكون أول ما يفكر به نشر الخبر قبل أن يفكر ويبادر بمساعدة المصابين، وقد تجد أطفالاً يسرحون ويمرحون في البيت من غير توجيه وتربية، بينما تكون أمهم بغرفة نومها ترسل الصور أو مقاطع الفيديو عبر الـ «واتس أب»، وأبوهم مشغول بإرسال الطرائف والنكات لأحبابه عبر الـ «واتس أب». وكثير من الآباء والأمهات يشتكون من انشغال أبنائهم بوسائل التكنولوجيا، ولو راقبوا أنفسهم لوجدوا أنهم مشغولون بالواتس أب، أو التصوير والنشر بالإنستجرام أكثر من انشغال أبنائهم بالتكنولوجيا، فصار التعلق بالهواتف الذكية سمة العصر.

وقال إن الآباء أصبحوا أكثر تعلقاً من الأطفال بالهواتف الذكية ويعالجون مشاكلهم التربوية بإيقاع التكنولوجيا السريع نفسه، تعالج بشكل سريع وبجلسة واحدة أو توجيه واحد، ويستحيل ذلك لأن الإنسان ليس آلة أو ماكينة، وإنما يحتاج لصبر وتكرار توجيه ودقة متابعة، ومرونة في التعامل معه، من أجل تقويم سلوكه وحسن تربيته.

وأضاف: «فقد الوالدان السيطرة على تربية أبنائهم في الطعام والزي والأخلاق والمهارات، بسبب كثرة انشغالهم بأنفسهم والتكنولوجيا التي بين أيديهم، وصار الأبناء يعانون السمنة وسوء التغذية وفقدان الشهية وكثرة الأمراض النفسية والعنف، بسبب انصراف الوالدين عن الاهتمام بهم لحساب الواتس أب ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى».

عدم مواجهة

ورفضت الدكتورة غادة الشيخ استشارية اجتماعية وأسرية إطلاق كلمة وسائل التواصل الاجتماعي، وقالت إن هذه الوسائل من المفروض أن يطلق عليها وسائل تدمير التواصل الاجتماعي.

وأضافت: «نحن لسنا ضد استخدام وسائل التواصل أو تكنولوجيا الاتصال، ولكننا مع تحديد الأولويات في الحياة الاجتماعية، وأكبر أولوية هي بناء أسرة مستقرة ومترابطة، لم يوظف هذا المفهوم بالطريقة الصحيحة، لقد أصبحنا في عزلة كاملة، ونعاني غربة داخلية، كما أننا أصبحنا نعيش جفاف المشاعر والأحاسيس، فإذا تعرض شخص لموقف معين يمكن أن يجد من يواسيه على الواتس آب مثلاً أو على الفيس بوك وغيرها من الوسائل الأخرى، لكن على أرض الواقع غير الافتراضي تقل هذه العواطف، ولن تجد من يتجه نحوك أو يطرق بابك ويواسيك فعلياً».

وأشارت إلى أن أفراد الأسرة أصبحوا متفرقين بسبب هذه الوسائل، بحيث أصبحت البنت ترسل لأمها رسالة لتطلب منها شيئاً، والكل يلهو في زاوية من زوايا البيت: «كانت الشكوى تتعلق في البداية بتعلق الأبناء بهذه الوسائل، واليوم تغيرت الحال، بحيث أصبح الأبناء يشتكون هذه المشكلة، ويجدون أنفسهم في عزلة تامة عن آبائهم المنشغلين في إرسال رسائل والاطلاع على أخرى، ومقابل ذلك أصبح الأطفال يعانون الخجل والاضطراب والصعوبة في التواصل ونقصان المهارات التعليمية، كما أن البعض أصبح سلبياً ولا يتفاعل مع الحدث، وغير مشارك، بحيث أصبحنا نتفرج على الأحداث، كما تسببت هذه الوسائل في ضعف المواجهة والقدرة على الحديث والاكتفاء بإرسال رسالة، فمثلاً عندما يرغب شخص في إلغاء موعد معين، يكتفي برسالة عبر الواتس آب أو غيرها من الوسائل الأخرى».

فراغ قيمي

وأضافت: «لقد قرأت في السابق عن تجربة أم وصفوها بالناجحة لأنها تنقل أبناءها إلى المستقبل عبر الزمن، وكانت الأم قد بدأت تتراسل معهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وصدمت بواقع هذه الأسرة التي ستضعف الروابط بين أفرادها إلى حد كبير، وهذا ما تجلى في علاقاتنا الإنسانية على أرض الواقع، بحيث أصبح كل شخص غريباً عن الآخر في البيت نفسه، وانشغلت الأم عن أبنائها، وكذا الأب عن زوجته، وكل في اتجاه، كما افتقدنا الجانب القيمي في علاقاتنا مع بعضنا، ففي السابق كانت الأم ناقلة للقيم والجدة كذلك، أما اليوم ومع الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي التي فرقت الأسر وأضعفت الروابط، أصبح هناك فراغ عاطفي وقيمي».

أسئلة بلا جواب

وقالت دولي حبال أخصائية في تشخيص وعلاج الأمراض النفسية بمركز الخليج التخصصي، إن ارتباط الأبناء بوسائل التواصل الاجتماعي أصبح متجاوزاً، بعد انتقال هذه العدوى للآباء، موضحة أن ذلك يؤثر سلباً على الأطفال وعلى تربيتهم، ويضعف قدراتهم على التواصل، بحيث يركن كل طرف إلى نفسه، ويترك أسئلة الأطفال بلا أجوبة، ومن المتعارف عليه أن المراهقين يصبحون أكثر إلحاحاً وتكثر استفساراتهم ويطلبون مرافقة الأهل، وهنا قد تظهر مشاكل عويصة إذا شل جانب الحوار والمواجهة المباشرة نظراً للانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي الذي يجعل أطراف العلاقة في عزلة، كما أن لغة الجسد تلعب دوراً كبيراً في العلاقات الإنسانية، وهذا الجانب أصبح مفقوداً من خلال استعمال هذه الوسائل في علاقاتنا، مثلاً عندما أخاصم ابني نتيجة تصرف معين، ويرغب في الاعتذار مني، قد يعانقني أو أضمه لصدري، أما وسائل التواصل الاجتماعي، فإنها تفتقد هذه الروابط الإنسانية العاطفية، إلى جانب التأثر بنبرة الصوت ونظرة العين وتعابير الوجه، وغيرها من الإيحاءات التي تعبر عن الرضا أو عن تقبل بعض السلوكيات.

معادلة (5 / 30)

تحتاج لتأمل

الدكتور عبداللطيف العزعزي، خبير الطاقة الحيوية والمهارات الصحية، البديلة، قد اختصر الموضوع في معادلة أطلق عليها «5/ 30». وقال: إنها تحتاج إلى تأمل، وتحدث عن 5 إيجابيات لهذه الوسائل مقابل 30 سلبية، وقال: «فرحنا بما نحن فيه من تقدم في التكنولوجيا ورحبنا بها، فملكنا الهواتف الذكية والحواسب اللوحية صغيرنا قبل كبيرنا، ولم نلحظ أو ندرك: أننا أصبحنا عبيدها، فككت الأسر، وأضعفت التواصل بين الآباء والأبناء، وألهت الناس عن واجباتهم الأساسية وأضعفت الروابط الاجتماعية، ومشاعر المحبة ودفء اللقاء، والحصيلة اللغوية، وأفقدت كبير العائلة هيبته وقيمته، وجعلت مجالس الرجال والنساء كمجالس العزاء، وأبعدت الأرواح، والمشاعر، حنطت الأجساد، وأماتت الكثيرين في الشوارع، وأنها جمدت العقول، وأضعفت البصر، وأصابت الأيدي بأمراض، وأضعفت الذكاء الوجداني، والاجتماعي، وأضعفت لغة الحوار، قطعت الأواصر، وأضعفت الذاكرة.

Related posts