«شرم» الفجيرة.. شمس أقلّ.. ظلٌّ أكثر … لا يكتمل فيها الصباح ولا الغروب

3a-na-84297

موقع الطويين : الاتحاد – ساسي جبيل

جذر شرم حسب لسان العرب لابن منظور شَقٍّ في جبل أَو صخرة لا يَنْفُذُ شَرْمٌ، والشَّرْمُ: لُجَّة البحر، وقيل: موضع فيه، وقيل: هو أَبْعَدُ قَعْره، وقال الجوهري: وشَرْمٌ من البحر خَلِيجٌ منه، وقال ابن بري: والشُّروم غَمَراتُ البحر، واحدها شَرْمٌ، وقال أُمَيَّة يصف جهنم: تَسْمُو لا يُغَيِّبُها ضَراءٌ، ولا تَخْبُو فَتَبْرُدُها الشُّرُومُة، وهكذا يجتمع التفسير بين البحر والجبل، فالبحر يغمر المدينة الشرقية الساكنة على مرمى صخر من خليج عمان ولكنها تتسلل بين الجبال واحة ومزرعة وحصالة ماء وحديقة غناء. من البحر تنبلج شمس خليج العرب حمراء نقية، فتلقي بقرصها على الجبل الممتد على حافة البحر، شمس صافية عذراء لا تأتيها غيوم ولا يمر ناحيتها غبار، شمس ينتظرها الأهل للانطلاق وصنع الحياة في البر والبحر وبين الصخور.

لا يكتمل فيها الصباح ولا الغروب

خلف سلسلة من الجبال الصخرية التي تحيط بها من المشرق والمغرب تنام قرية شرم، هادئة مستكينة، في انتظار صباح لا يأتيها إلا متأخرا ومساء لا يأتيها إلا باكرا، مساحة الشمس في شرم لا تدوم كما نظيراتها من قرى ومدن الإمارات العربية المتحدة في الغالب، فهي تصل بعض ديارها متأخرة، وتغادرها مبكرة نحو الغروب، مساحة الظل بين الجبلين أكبر من أي مساحة ظل أخرى، فقد تتسلل من المدخل الرئيسي لها لكنها من الجهات الأخرى تبقى مختفية إلى حين يسمح لها الجبل بالعبور بقرص ضوئها نحو ما اختفى من الديار التي اختارت الانزواء وراء السفوح السوداء الصخرية.

 

ضوء أقل..

لا بد أن تنظر إليها من الأعلى لتراها كما هي بلا مكياج ولا طلاء ولا تزويق، واحة وحديقة غناء تنثر الأخضر حول ديارها محاطة بما يظهر منها من جبال كلسية تميل إلى السواد من الأعلى، إذ تتعلق الخضرة بتلابيبها من الأسفل. وتعلو في أسفل الجبال الشاهقة الثلاثة التي تحيط بها بيوت عامرة، ومغامرة، ومكسوة بمساحة ظل أكبر، كأنهم اختاروها بنقص حاد في مساحة الضوء ليختفوا من عدو قادم، أو ليحتفوا بالظل فالشمس الضئيلة في شرم يعيقها الجبل الشرقي الذي يفصلها عن البحر، والجبل الغربي الذي يفصلها عن مهبط الشمس وهي في طريقها إلى الغروب، حتى لكأن النهار يتوقف فيها عند شفافته، فلا يكتمل الصباح ولا يكتمل الغروب، حتى إذا ادلهمت السحب أظلم غربها.

كأن الأجداد هنا في هذه القرية المختفية خلف التلال اختاروها مخبأ من الغزاة والقادمين من وراء البحار، أو أن رغبتهم في دفء خاص وحرارة أقل رمت بهم بين هذه الجبال، في سهل تضيق مساحته ومدخل واحد من الشرق تستطيع أن تدلف إلى أعماقها وهي التي تجيد إخفاء نفسها كعروس ترفض أن تسفر عن حليها وزينتها، الظل يلف الأهل هناك بدفء خاص يأتي من علٍ، وربما كانوا في انتظار المياه المنسابة من الجبال التي تحيط بها ليوفروا الكلأ والقوت من الأرض العطشى والغنية في آن.

من هذا الصخر الطالع من آلاف السنين تشكل هذه المدخل القرية، ورسم لها صورة مختلفة تماما عن شكل القرى المتعارف عليه في كل قرى العالم وبواديه، فهي شبه جبلية مقارنة بشبه الجزيرة التي تطلق عادة على الأماكن التي يحيط بها البحر من ثلاث جهات.

قرية لها تاريخ

من السهل أن تسبر أغوار شرم إذا عرجت على التاريخ والجغرافيا معاً، ففي هذه الربوع كان غزاة ومستوطنون أوائل عمروا فضاءاتها، وتشير إلى ذلك المواقع الأثرية المهمة التي تعود إلى فترة (وادي سوق) وهي تحديدا ما يعبر عنه بالفترة التاريخية الثالثة من 1600 إلى 2000 قبل الميلاد، وتطلق هذه التسمية على المواقع التي اكتشفت بين خليج عمان ومدينة العين، وقد تجلى ذلك في مدافن ومقابر عثر عليها في عدد من المناطق المحيطة بالفجيرة مثل مريشيد والبثنة وقدفع وشرم ودبا، وكل ذلك يدل بشكل قاطع على أن الاستيطان البشري في هذه الربوع استمر من الألف الثالث قبل الميلاد وحتى الألف الثاني قبل الميلاد، فوجود المقابر يعني أن هناك حياة في هذه القرية منذ عصور سحيقة، إلا أن مقابر شرم بنيت خارج منطقة المزارع في اتجاه أطراف الجبال مما ساعد على بقائها، وهو ما تشترك فيه شرم مع ضدنة والبدية وقدفع ومريشيد، كما تشير الوثائق التاريخية إلى أنه كان هنالك مزارع ونخل وذلك بفضل الماء الذي تعددت أوديته ومساربه من سفوح الجبال إلى الأرض المنبسطة التي تعتبر مصبا تلتقي فيه كل المنحدرات.

باكراً كانت تسير القوافل نحو البحر، هذا الذي كان مورد رزق للكثير من سكان المناطق الشرقية المحاذية لخليج عمان مثّل لأهل شرم أيضاً ولغيرها من القرى المجاورة مورد الرزق الذي لا ينضب، والذي لا يرتبط بطقس أو مطر أو فصل بعينه لتمنع الماء من الشح وترغمه على أن يهبها سمكا وقوتا وذخيرة للأيام العجاف.

يصر الأهل هنا على أن يكون الماء نقيا صافيا، فلكم تفجرت ينابيع في تلك الديار، لكن الدارسين لجيولوجيا تلك الأرض يعرفون أن من بين الصخر يطلع الزرع والكلأ والخير العميم، ومن بين الصخر تهب الحياة الخصب والنور، معادلة صعبة ولاشك، لكن ثقافة الجبل تعطي الناس عزيمة أكبر للحياة والفعل والتحدي والكفاح من أجل تطويع الفضاء بما يتناسب والرغبات، فالحاجة أم الاختراع، والصخر بما هو مستحوذ على الفضاء في جبال عالية وعاتية وداكنة يتيح للإنسان التعامل معها بكل صلابة وعزيمة حتى لا ينكسر عزمه أمام هيبة الجبل وصخره، وأمام المطر الذي كثيرا ما هدد ديارها، حتى أصبح الأهل يتضرعون إلى المولى أن ينزل السيل بما لا يتركهم غير قادرين على مقاومته.

صخر عرمرم، يرسم بألوانه وعلى قمم جباله قصيدة ربما ذكرتنا بصقلية وشاعرها إبن حمديس، وبركان أثينا وهو يلقي بحممه على الجزيرة في الضفة الأخرى من المتوسط. من هذه الجبال مر المهلب بن أبي صفرة الأزدي متجها للفتح المبين في شرق آسيا فترك للإسلام موطئ قدم راسخا على مر الزمان، ومن هذه الجبال وفيها استطاع الغزاة الأوائل أن يؤسسوا لثقافة القلاع والحصون العاتية، أولئك الغزاة القادمون من المحيط الهندي أو من خليج العرب الذي كان مسرحا لمعارك طاحنة.

تتناثر حبات الحصى بأشكال وألوان مختلفة كما عقد منفرط الحبات، تحفر شرم في الصخر لتجد لنفسها متسعا ومساحة سهل بين التلال، تحاول أن تحفر في الصخر لتوفر مجالا حيويا يهبها المزيد من المساحات والمسالك لتتسع أكثر وتمتد في جلمود الصخر.

وشرم غير بعيدة عن خليج عمان «أرض عمالقة البحار» كما يسمى عبر التاريخ، والموطن الأول لمهاجري جنوب شرق الجزيرة العربية الذين عرفوا باسم الفنيقيين والذين هاجر بعضهم من اليمن بعد انهيار سد مأرب الذي تنحدر منه قبائل كثيرة تقيم تحت ظل الجبال، حطوا الرحال على منبسطها لكي لا يبتعدوا كثيرا عن البحر الذي طالما مثل مورد رزق لهم منذ قرون، ولكي يحرثوا الأرض لتجود لهم بالزرع.

عمارة عتيدة

بمعمارها العاتي الذي بقي عتيدا أمام سيول الجبال تطاول شرم الجبال المحاذية، وتوقظ في النفوس وهج الذكريات البعيدة، فهنا علت أسوار وعمّرت ديار من قرون مرت وعصور غابرة، مؤكدة أن قدر الإنسان أن لا يظل على ما هو عليه، لكن هذا التواؤم الراهن في العمران والبيئات، وبين النخل والحجر والبشر والماء، يصنع حياة بألوان متعددة تحكي الماضي في صور بديعة وتصنع الحاضر بأشكال مختلفة تنبض بروح أخرى وتنخرط في العصر لكن لا تبقى خارج السرب، فمن العقة سيمتد جسر خليفة في عمق الجبل ليصل مدن الساحل الشرقي ببعضها البعض، وعلى امتداد 550 متراً وسط الجبل سيمتد الطريق بين شرم والعقة ويربط الطريق الجديد مدينة دبا بمدينة خورفكان، كما سيربط المناطق الواقعة على هذا الطريق مباشرة مثل: رول دبا، رول ضدنا، ضدنا، العقة، شرم، البدية وغيرها من المناطق الجبلية. وشرم القرية اليوم لا تزال المسارب تخط الفواصل بين كثير من شوارعها التي تحيل إلى بساطة وحياة أولى، باستثناء إسفلت قليل يصلها بما حولها من قرى ومدن المنطقة الشرقية، تثير فيك شهية البقاء بين أحضان جبالها، لأن هذه الصخور تحتضنها بحنو، وترغمك على أن تكون مبتهجا بين جنباتها العامرة بالظل والدفء والعمران والنخل والحياة على عواهنها وبتفاصيلها الأولى التي لم تغمرها حداثة، ولم تأت ناحيتها منغصات الحياة العصرية.

بساتين النخل والمزارع والعيون والأودية التي جف بعضها منذ عقود لم يبق من أثر لها سوى القليل، ولكن حقولا أخرى ومزارع نبتت من بين الصخر لتجود بالخير، أما بالنسبة للماء فلم تبق غير المنحدرات شاهدة عليه، هذا الماء الذي تدفق في أودية لا تأتي إلا إذا انهمر السيل وساح الماء في كل الأرجاء. ماء كاد يأتي عليها خلال إعصار جونو منذ سنوات، ولكن الجبال التي كانت تحرسها من كل الجوانب أنقذتها وحنت عليها بكل تؤدة، كما حنت على البدية التي تفتح نوافذها مشرعة على البحر، فكانت السدود هي الحل الأمثل لكي لا يتوقف نزيف الماء في أرجاء القرى المحاذية للجبال.

الأشجار الجبلية ونباتات السدر والغاف وغيرها مما عرش على السهل والتل والجبل وحذو الأودية وما حولها والنخل والمزارع، تشكل كلها مشهدا متعدد الألوان وتنوعا من النادر أن تجد له نظيرا في كثير من الأماكن، فمن هذا التنوع الطبيعي تتشكل شرم وهي تمضي إلى غدها مسرعة الخطوات، واثقة في النفس، ممتعة ومتمتعة بلعبة الضوء والظل، هذا الذي يقف عنده كل مقيم فيها، وكل زائر لها.

رسم على السليقة

شرم لوحة ترسم ألوانها المتعددة على السليقة الأولى، وتشعرك بالهدوء والسكينة وعظمة الطبيعة وتنوع مفرداتها. شرم خيط يربط البحر بالسهل بالتل بالجبل فتعلو القرية المستلقية بين الصخور وحذو الرمال لتوقظ عشقا أبديا في النفوس، ولتعرش كسنديانة بين الجبال، معلنة أنها أكبر مما تراه العين للوهلة الأولى، وأن أعماقها تظل في الداخل، وأن الصورة الأولى للعابر على الطريق هي الصورة الخارجية المسطحة التي لا تحيل عليها حقيقة، ففي الإيغال داخلها سحر آخر ونور مختلف وضوء أكثر إبهارا وانتصارا لبيئة أخرى تختلف عن نظيراتها، ولكن هذه القرية جمعت ثلاث بيئات دفعة واحدة، وهي على صغرها تشعرك أنها أكبر من المجال الذي حولها لأنها تحسن توظيف كامنها، وتعيد رسم ملامحها الأولى كلما تغير طقس أو ضمر لون أو شح ماء أو غضب بحر أو حل إعصار…

شرم تتشكل كيفما أرادت، لأنها ببساطة لا تريد أن تكون إلا متصالحة مع ذاتها ومناخاتها وتفاصيلها وشخوصها من البدو الذين أمسكوا بتلابيبها، وعمروا ديارها التي كانت ولا تزال ديار عز وفخار وكرم وجود بالموجود…

شرم قصة من قصص الزمان الذي لا يتوقف عن إحصاء البطولات والتحديات ليعلو صرحها بين الجبال السامقة واحة ظل وماء وذاكرة عنقاء، وحديقة خلفية غناء مختفية خلف الظل بشمس أقل، ولكن بنور مزروع في نفوس أهلها الذين تشبثوا بها أرضاً وبحراً وجبلاً وملاذاً لا مناص لهم منه على مر الزمان…

شرم حكاية مختلفة عن كل الحكايات لأنها لا تزال تعيش على الفطرة، وتمضي غير عابئة بما يسيح من جبل أو ما يرمي به البحر من أمواج، لأنها ببساطة نادرة أعدت قارب نجاتها من خلال تموقعها الطبيعي الذي لا يأتيه الضنك من أعلى الجبل أو من خلفه.

Related posts